من وحي المسامير ..
رأيت فيما يرى متصفح اليوتيوب "سويكت بن راضي" .. شخصيةٌ لرجلٍ له من اسمه نصيب ابتكرها المبدعان فيصل العامر و مالك نجر في مسلسل مسامير الذي يعرض على اليوتيوب ذائع الصيت. تم التعريف بهذا الرجل الخيالي والواقعي في الوقت ذاته بأنه "لم يُسمع يوماً يتأفَّف على الرغم من كل الظروف السيئة التي تحيط به". وإن كان لي الحق أن أزيد على التعريف بهذا الرجل فلا أزيد إلا بأنه النسخة السعودية من "سرحان عبدالبصير" الشاهد الذي لم يشهد شيئاً ! ماتعرض له هذا "السويكت" في طيات تلك الحلقة ماهو إلا غيض من فيض لمجتمعنا الأفلاطوني المشوب بقليل من الشوفينية على الرغم من أن جميع المنابر تصدح عاليا بقوله تعالى "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" !
نظرةٌ متمعنةٌ للمجتمع توضح أن هذا "السويكت" ماهو إلا أحد نموذجين لمجتمعنا. أما النموذج الآخر فهو على العكس تماما "لسويكت بن راضي" في سلوكياته ؛ فهو "ملوسن بن جزاع". وعلى اختلاف السلوكيات الظاهرية لهذين الصنفين فإنهما متشابهان تماماً في الشعور الداخلي بالانهزامية أمام واقعٍ تعيسٍ لا يمكنهما تغييره ، فكل رجل منهما اعترض على الواقع بطريقته الخاصة. "سويكت" فضل الصمت و تمثل بالبيت القائل :
فإِن لَمْ تَجِدْ قَوْلاً سَدِيدَاً تَقُولُه .. فَصَمْتُكَ عَنْ غَيْرِ السَّدادِ سدادُ
ولكن قد لا يكون صمت "سويكت" عجزاً ، بل قد يكون إعراضاً عما قد يراه "سفاهةً" في المجتمع مصداقاً لمن قال :
لاتُرجعنَّ على السَّفيهِ جوابَه .. إلا جَوَابَ تحيِّة حيَّاكَهَا
فَمَتَى تُحَرِّكْهُ تُحَرِّكْ جِيفَةً .. تَزْدَادُ نَتْناً إِنْ أَرَدْتَ حِرَاكَهَا
أما "ملوسن" فعلى العكس تماماً ، اختار "خذوهم بالصوت" شعاراً له. ولكنَّ حاله لم يختلف عن حال أخيه "سويكتٍ" البتة إلا في أنه اختار الحياة بالبوح عما يجول في صدره متمثلاً بقول الشاعر :
تَكَلَّمْ وسَدِّدْ مَا اسْتَطَعْتَ فَإِنَّمَا .. كَلامُكَ صَمْتٌ و السُّكُوتُ جَمَادُ
نعم ، هنالك تباين في السلوك الظاهري بين الرجلين ولكن في الوقت نفسه هنالك تطابق في الإحساس الداخلي برفض الواقع حتى و إن حاول البعض نفي التهمة عن المجتمع مستخدما مقولة "إني لا أكذب ولكني أَتَجَمَّل". ولكن حين تقف موقف المتأمل لمجتمعيْك صغيرهما و كبيرهما ، تجد المتناقضات التي لا يقبلها عقل بل ينكرها الدين (الذي طالما تظاهروا به) و هي -أعني المتناقضات- مصداق للحكمة المأثورة حدث العاقل بما لا يليق فإن صدق فلا عقل له. فهاهي وسائل التواصل الاجتماعي تتحفنا بما لم تره عين ومالم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشرٍ قط ...
فتجد من اعتاد زيارة "الحانات" يفتي بتحريم الاختلاط و قيادة المرأة و تأنيث المحلات النسائية !
وتجد أن عالم فيزياء الكم "زعيط بن معيط" صاحب الناقة الوضحا "ليدي جاجا" أثبت خطأ قانون نيوتن بناء على قفزة فيليكس في وسيلة التواصل الاجتماعي "واتس اب" المحكمة علمياً !
وتجد من نام رمضان إيمانا و احتسابا يثبت لك بالبرهان الدامغ أن صورة التقطت لفجر لليلة 27 محرم هي ليلة القدر !
وتجد من حرمك أبسط حقوقك يتلو قوله تعالى "و هديناه النجدين" مذكرا بأن الإنسان مخيرٌ وليس مسير !
وتجد فاسق الأمس قد تصدر المجالس لإعفائه لحيته و تقصيره ثوبه و روايته لأحاديث ضعيفة وموضوعة !
وتجد أنه "إذا سرق فيهم الشريف تركوه و إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد" !
وتجد أن غاية الدين أن يحفوا شواربهم .. يا أمة ضحكت من جهلها الأمم !
وتجد المجتمع يزعم الوحدة و هو في واقعه متفرقٌ شَذَر مَذَر !
وتجد أن الليبرالية وراء كل مشكلة حتى وإن كان من اتهمها لا يفقه معناها (وأزعم أنهم كثر) !
وتجد أن نسبة البطالة تفوق 10% في دولة تملك ثاني أكبر احتياطي نفط في العالم !
و في خضم هذا الكم الهائل من العجائب التي يندى لها الجبين يتحتم على كل فرد في مجتمعنا الشوفيني المختار أن يكون "منتصب القامة يمشي مرفوع الهامة يمشي" لأنه "سعودي غيره ينقص وهو يزودي". ولأن قانون نيوتن ينص "بأن لكل فعل ردة فعل" حتى و إن ثبت مؤخرا خطؤه .. كانت ردة الفعل الحتمية و بسيطة جدا ؛ فإما أن تقف صارخا كـ "ملوسن" ، أو صامتا كـ"سويكت" .. وفي كلتا الحالتين لسان الحال يقول رافضاً بعجزٍ مؤلمٍ "لا" ولايمكن سماعها لأنه
لقد أسمعت لو ناديت حيا .. ولكن لا حياة لمن تنادي
خاتمة ... يقول أبو الطيب المتنبي :
و كم من عائب قولاً صحيحاً .. و آفته من الفهمِ السقيمِ
ولكن تأخذ الآذان منه .. على قدر القريحة و العلومِ
حمد القحطاني