جزاء المقامرة بأسعار الحديد
مع إطلالة ارتفاع أسعار بعض المنتجات الصلبة وغير الصلبة, أجد الفرصة سانحة للحديث عن العوامل المؤثرة في الأسعار, وبتأمل هذه العوامل نجد أنها كثيرة ومتعددة, وبعضها قد يكون حقيقياً, وبعضها قد يكون مصطنعا, وهذه العوامل على سبيل التمثيل لا الحصر:
جودة السلعة، فالسلعة كلما كانت أكثر جودة كانت أعلى سعراً, والعكس بالعكس, وهذا من أبجديات قيم السلع.
تكلفة المنتج (المواد الخام, الأيدي العاملة, أجور النقل «سعر البنزين, الديزل, الغاز», الضرائب, الرسوم الجمركية...)؛ فالسلعة إذا كانت تكلفتها عالية, فهذا بلا شك سينعكس على سعرها, والعكس بالعكس.
حجم المنافسة؛ فالتاجر إذا كان له منافس جيد في السوق, حيث يعرض السلعة نفسها, وبالجودة نفسها, فإن هذا سيخلق جواً من التنافس, لعرض السلعة بأقل سعر ممكن, حتى يتمكن من جذب أكبر قدر ممكن من الزبائن, والعكس بالعكس, فإن التاجر إذا لم يكن له منافس في السوق, فإنه سيمارس سلطته على أرض السوق, بعرض السلعة بالسعر الذي يراه مناسبا, كما نلاحظه في بعض الشركات المحتكرة لبعض السلع والخدمات, ودون تحديد أسماء..!!!
الاحتكار؛ وهذا العامل له ارتباط بالعامل السابق, وذلك أن التاجر إذا مارس أسلوب الاحتكار, فإنه ينأى بسلعته عن المنافسة, لينفرد وحده بالسلعة, من أجل أن يغلو ثمنها, ويحمل الناس على الشراء منه بأغلى الأثمان. ولهذا كان من واجب ولي الأمر أن يمارس سلطته بمنع هذه الممارسات الخاطئة, لتعود الأثمان إلى طبيعتها, لا سيما في السلع التي تمس الحاجة إليها.
القوة الشرائية للعملة؛ فالأوراق النقدية إذا كان لها قوة شرائية فإنها تحافظ على استقرار أسعار السلع, أما إذا مسها داء التضخم, بحيث ضعفت قوتها الشرائية, فهذا في كثير من الأحيان ينعكس سلباً على أسعار السلع, فتغلو الأثمان لتغطي العجز الذي لحق بالعملة.
السيولة النقدية؛ وهذا قد يحدث مع الزيادة المبالغ فيها لرواتب الموظفين, مع ضعف الرقابة, فيحتال كثير من التجار والباعة على العامة بزيادة أسعار السلع, بقصد الرفع من مستوى دخلهم, استغلالاً لارتفاع الرواتب, ولهذا جرت العادة أن تقوم الدولة بتحذير التجار من زيادة أسعار السلع؛ قطعاً للطريق عليهم, ولئلا ينتج عن ذلك تضخم نقدي يضر بمصالح المواطنين.
الاستقرار السياسي والأمني؛ ولاشك أن الاستقرار يلعب دوراً رئيساً في استقرار أسعار السلع, ولهذا نجد أن كثيراً من الدول التي تعرضت لانتكاسات أمنية, أو لحروب طاحنة, أنها تنوء بحمل هذه الأزمات من خلال صور كثيرة, منها ما يلحق السلع المعروضة للبيع من تضخم في الأسعار, بسبب عامل الحاجة أو الفقر, الذي تولده الحروب والأزمات.
الحصار الاقتصادي؛ وهذا العامل متولد من السابق, فالحصار الذي تفرضه بعض الدول العظمى على الدول المستضعفة, غالباً ما ينتج عن ظروف سياسية غير مستقرة, فتكون الفرصة سانحة لبعض الدول الظالمة لتمارس جبروتها تحت أي ذريعة كانت, وهذا بطبيعة الحال يورث اضطراباً في الحياة الاقتصادية, يمس الأسعار وغيرها.
العرض والطلب؛ فهما يحملان الأسعار على الارتفاع أو الانخفاض, فكلما زاد العرض وقل الطلب انخفض الثمن, وكلما قل العرض وزاد الطلب ارتفع الثمن, وهذا من القوانين الطبيعية في السوق, ليس في سوق بيع السلع فحسب, بل حتى في سوق الإيجارات, والخدمات, ونحوها, فأسعار إيجار المنازل مثلا ترتفع مع كثرة الطلب عليها, ولهذا يرتفع إيجارها في أوقات الإجازات والزيجات مثلا.
إذاً فقانون العرض والطلب, له أثره الكبير في رفع الأسعار أو خفضها, ولذا يجب أن يترك على طبيعته, والتدخل في هذا القانون بما يخل عمداً بأسعار السلع من المخالفات الشرعية بل والقانونية, ولم يجز التدخل فيه إلا استثناء.
وقانون العرض والطلب هو الآخر له عوامل مؤثرة فيه كثرة وقلة كما قرر ذلك رجال الاقتصاد في كتبهم, ويمكن تلخيص أبرزها في النقاط الآتية:
1 سعر السلعة نفسها؛ فهناك علاقة عكسية بين سعر السلعة والكمية المطلوبة منها, فعندما يرتفع سعر السلعة تقل الكمية المطلوبة منها, والعكس صحيح.
2 دخل المستهلك؛ ففي أغلب الحالات توجد علاقة طردية بين دخل المستهلك وبين الكميات المطلوبة, فيزيد الطلب على السلعة عندما يزيد الدخل, والعكس صحيح.
3 أسعار السلع البديلة؛ ففي أغلب الحالات توجد علاقة طردية بين الكميات المطلوبة, وبين أسعار السلع البديلة لها, فعندما يرتفع سعر السلعة البديلة(اللحم مثلا) فإنه يتوقع زيادة الطلب من السلعة الأصلية (الدجاج), والعكس صحيح.
4 أسعار السلع المكملة؛ فمن المتوقع وجود علاقة عكسية بين الكميات المطلوبة من سلعة ما وبين أسعار السلع المكملة لها, فعندما يرتفع سعر السلعة المكملة (السكر مثلا) فإنه يتوقع انخفاض الطلب من السلعة الأصلية (الشاي), والعكس صحيح.
5 تكلفة الإنتاج؛ فمن الطبيعي وجود علاقة عكسية بين الكميات المعروضة وبين أسعار العناصر المساهمة في إنتاجها, فارتفاع أسعار عناصر الإنتاج يؤدي إلى زيادة تكاليف الإنتاج, مما يدفع المنتجين إلى تقليل المعروض من السلعة.
6 أسعار السلع الأخرى؛ فارتفاع أسعار السلع الأخرى سيشكل عامل إغراء بالنسبة للمنتجين في تحويل وتوجيه عناصر إنتاجهم من إنتاج هذه السلعة إلى السلع التي ارتفعت أسعارها؛ وذلك لتحقيق أقصى الأرباح, مما يؤدي إلى تقليل العرض من هذه السلعة, والعكس صحيح.. ويمكن أن يضاف لهذه العوامل أيضا:
6 قرارات السلم والحرب الدولية؛ فقد أثبتت الحروب الطاحنة أنها تسهم بشكل كبير في تقليل عرض السلع؛ وذلك بسبب انتشار الهلع والخوف, وهرب عديد من التجار والباعة من المناطق المستهدفة بالمدفعية والصواريخ.. إلخ, طلباً للنجاة, وبالتالي كلما اشتدت الحرب والتهبت نارها انحسر العرض, وارتفع الطلب تبعاً لذلك, وكلما هدأت الحرب في مكان ما وخف وقعها زاد العرض, ورجع الحال إلى وضعه الطبيعي, بشكل تدريجي. ولهذا نجد أن الأسواق المالية تتأثر تأثراً ملحوظاً بقرارات الحرب والسلم, فيتراجع السوق, ويحمر مؤشر تعاملاته حين يلوح في الأفق إمارات شن الحرب على دولة ما, بل قد يتراجع السوق, فيرتفع العرض, وينحسر الطلب, بمجرد احتمال وقوع الحرب على دولة مجاورة, فضلا عن كونها طرفاً في هذا الصراع أو ذاك.
8 السياسة الداخلية ذات العلاقة؛ فبعض سياسات الدولة الداخلية ذات العلاقة بالسوق التجاري, لها أثرها الإيجابي أو السلبي, فمثلاً قرار الدولة بدعم صندوق التنمية العقاري بمخصصات إضافية ترفع من سقف ميزانية الصندوق مليارات عدة, له أثره الكبير في إنعاش السوق العقارية, وفي زيادة الطلب على الأراضي, وكذلك قرار الدولة- مثلا- بشأن فسح المجال لغير السعوديين للتداول في سوق المال, له أثره في إنعاش سوق الأسهم؛ لأنه يعطي مؤشراً على كثرة الطلب على الأسهم, وهكذا.
9 القرارات المالية للشركات المساهمة؛ وهذا بلا شك له أثره الواضح والمشاهد, إيجاباً أو سلباً, فالقرار الإيجابي للشركة يرفع من سقف الطلب, وبالتالي يرتفع سعر السهم في السوق, والقرار السلبي يخفض الطلب, ويرفع من سقف العرض, وبالتالي ينخفض سعر السهم, ولهذا جاء نظام هيئة سوق المال بوجوب الإفصاح عما تصدره الشركة من قرارات, وبالمنع من تسريب المعلومات الخاصة بالشركة لبعض المساهمين دون بعض.
10 الفتاوى الشرعية الصادرة بتصنيف الشركة ــ شرعاً ــ في دائرة الحلال أو الحرام؛ فهذه الفتاوى الفقهية تترك أثرها في السوق, وتحديداً في المجتمعات المحافظة كالسعودية, ولا سيما إذا كانت الفتوى محل اتفاق بين العلماء المعاصرين, لتلقي الناس هذه الفتوى بالرضا والقبول, فالفتوى- مثلا - بتحريم المساهمة في البنوك الربوية يحمل كثيراً من الناس على النفور عنها, وعدم المساهمة فيها, وهنا يقل الطلب, ويرتفع العرض, فينخفض السعر تبعاً لذلك. أما إذا كانت الفتوى في هذه الشركة أو تلك محل خلاف بين العلماء المعاصرين, فإنه يقل أثرها تبعاً لذلك, لأن الناس سينقسمون إزاء هذه الفتوى إلى فريقين, وسيتبع كل واحد من الفريقين من يقلده من أهل العلم. وبكل حال فهذه الفتاوى ظاهرة صحية وإيجابية متى ما صدرت من علماء ثقات, معروفين بالديانة, وبفهم هذه المعاملات المالية المعاصرة؛ لأن المجتمع بأشد الحاجة إلى من يبصره بأمور دينه, ومعرفة أحكام شرعه المطهر, وإذا كان المواطن المستثمر في هذا السوق في حاجة إلى من يبصره بالجدوى الاقتصادية من هذه الشركة أو تلك, فهو أشد حاجة إلى من يبصره بحكم المساهمة فيها من الناحية الشرعية, لأن المسلم الواعي يدرك جيداً أن التشبث بالدين أهم من التشبث بالدنيا الزائلة, وأن المال الحلال يبارك له فيه وإن كان عائده المالي أقل من عائد المال الحرام, أما القول بأن هذه الفتاوى تلحق الضرر الكبير بالاقتصاد الوطني, والاقتصاد الخاص, فهذا منطق رأسمالي المبني على فكرة الاقتصاد الحر, وهو منطق غير مقبول, وليس لدينا في شريعتنا سوق حر, وإنما سوق منظم, فالسوق في البلاد الإسلامية يجب أن يكون ملتزماً بالضوابط الشرعية, فلا يترك الحبل على الغارب للتاجر ليبتز الناس بالمعاملات المحظورة, سواء بالاحتكار, أو بالنجش, أو بالقمار, أو بغيرها من التعاملات التي حرمها الشارع الحكيم, ولا يسد الطريق أمام العلماء ليدلوا بآرائهم في المسائل الفقهية المتعلقة بالسوق, بحجة أنه يلحق الضرر به.., وأما التجار المقامرون بأسعار الحديد فربنا لهم .
د.يوسف بن أحمد القاسم