هل أصبحت وسائل الإعلام باباً من أبواب التسول؟
مساء يوم السبت قبل الماضي كنت أستمع إلى برنامج إذاعي يتلقى اتصالات من المستمعين، وشدني حوار جرى بين المذيع وفتاة قالت إن وضعها وأخواتها دفعهن إلى التسول، وأشارت الفتاة إلى أنها مع شقيقاتها وعددهن تسع يعشن في منزل لا تتوافر فيه مقومات الحياة، وأنهن ووالدتهن المريضة يعانين أشد المعاناة، وحين سأل المذيع عن وضع والدهن قالت الفتاة إن والدها رجل ميسور الحال ولديه أراض وعقارات ولكنه لا ينفق عليهن، وختم المذيع الحوار داعياً أهل الخير إلى مساعدة هذه الفتاة وشقيقاتها.
حقيقة كنت أتمنى لو أن المذيع لم يقف عند هذا الحد من عرض القضية، وكأن مهمته هي تلقي طلبات المساعدة فحسب، دون مناقشة الوضع الذي أدى بهذه الفتاة وأخواتها إلى التسول، وكنت أتمنى لو أن المذيع ناقش وضع هذا الأب الميسور الحال ومدى مسؤوليته عن توفير حياة كريمة لأسرته، وموقف الشرع من تصرف هذا الأب عبر استضافة متخصص شرعي، وكذلك استضافة متخصص نفسي ليشرح للمستمعين الأسباب التي تؤدي بالإنسان إلى أن يتجرد من الأحاسيس ويمتنع عن الإنفاق على أسرته رغم وفرة ماله، فيدفعهم نحو طرق غير شرعية للبحث عن المال، مع إحالة قضية الفتاة إلى جهة تتأكد منها وتعالجها بشكل حاسم.
إن الإشكالية التي يعانيها المجتمع أن هناك أوضاعاً يمكن معالجتها ليس بمد يد المساعدة للمحتاجين فحسب، بل بمعالجة من لديه شذوذ في التفكير، أو تقصير تجاه أسرته.
وهذه هي المهمة الأساسية لوسائل الإعلام قبل أن تصبح وسيلة تسول يصل صداها إلى شريحة كبيرة من المستمعين، فتروج لقضايا قد تكون غير محتاجة إلى المساعدة، وإبرازها يكون على حساب فئات متعففة هي الأكثر حاجة إلى المساعدة والعون.
هذه المقابلة الإذاعية ذكرتني بعدة قضايا، بعضها مرت عليه سنوات، وإحداها كانت مقابلة أجرتها إحدى الصحف المحلية مع رجل شكا الفاقة وعدم قدرته على توفير قوت يومه، واتضح أن هذا الرجل سبق أن درست حالته وتم عرض إسكانه في سكن مدفوع الإيجار مع توفير مستلزمات السكن، فرفض ذلك وقال إن لديه أرضا ويرغب في أن تبنى له استراحة.
وقضية أخرى وهي حالة أسرة تسكن في منزل متواضع في حي شعبي نشرت إحدى الصحف موضوعاًً عنها، فجاءتها المساعدات من كثير من فاعلي الخير، وحين عُرض على هذه الأسرة الانتقال إلى سكن خيري كان الجواب بالرفض، والحجة أن محبي الخير لن يأتوا إليهم إذا ما خرجوا من هذه المنطقة.
وقضية ثالثة نشرت كذلك في إحدى الصحف ، وهي قصة فتيات يعانين من التخلف وأنهن لا يتلقين أية مساعدة، ثم نشرت الصحيفة رداً من وزارة الشؤون الاجتماعية جاء فيه أن هذه الفتاة وأخواتها تصرف لهن رواتب وتمت مساعدتهن عدة مرات مع إحصائية بما تم دفعه لهن.
إن أي مجتمع في العالم لا يخلو من حالات تحتاج إلى مساعدة، وهذا أمر لا ينفيه أحد، لكن أن يصبح التسول طريقة سهلة للعيش بدلا من العيش الكريم الذي يحفظ للإنسان كرامته، فهذا ما يحتاج إلى وعي من محبي الخير أولاً، ومن أجهزة الإعلام التي تسعى للتعريف بالحالات الإنسانية، إلا أنه ليس لديها القدرة على الفرز بين حالة إنسانية حقيقية، وبين من يدعي الحاجة وهم كثر.
صالح محمد الجاسر