من بقية السَّلف: الشيخ عبدالعزيز بن حُسَين العَسْكر
في ليلة الأحد الواقع في الأول من شهر ذي الحجة عام 1431هـ فقدت الدلم أحد أعلامها وأحد روَّاد التعليم في الخرج بعامة، وأحد طلبة العلم في حلقات الشيخ الإمام عبدالعزيز بن باز في الدلم بين عامي 1357هـ و1371هـ ذلك هو الشيخ عبدالعزيز بن الشيخ حسين بن أحمد العسكر، وفي السطور التالية لمحات من حياة شيخنا وسيرته.
أما والده فهو أحد أعلام الدلم والخرج، رجلٌ آتاه الله مالاً وحكمة وهيبة ووقاراً، قويت صلته عند الملك عبدالعزيز حينما دخلت الدلم في حكم الملك عبدالعزيز وأصبحت له مكانة كبيرة كان حسين العسكر يملكها قبل دخول الملك عبدالعزيز للدلم فوثق به وأصبح يستشيره ويقبل شفاعته وتزكيته لمن يعرف. وبذل رحمه الله من ماله وجاهه في إصلاح ذات البين وسد حاجة المحتاجين ورزقه الله ذرية كبيرة من الأبناء والأحفاد هم الآن بعد وفاته من خيرة الشباب وفيهم علماء ومربون متميّزون، منهم الدكتور خالد بن عبدالرحمن بن عبدالله والدكتور عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن محمد.
أما الشيخ عبدالعزيز فهو أصغر إخواته، وقد انصرف إلى العلم منذ طفولته رغم انشغال والده وإخوته بالزراعة فذهب إلى حلقات الشيخ عبدالعزيز بن باز وكان الشيخ قاضي الدلم والخرج وفقيهها فحفظ القرآن الكريم وأتقن علوماً كثيرة أهمها: علم التفسير والحديث والفقه والتجويد والتوحيد وغيرها. فلما افتتحت المدرسة السعودية الأولى في الدلم والتي سميت فيما بعد مدرسة ابن عباس اختير الشيخ عبدالعزيز بن حسين مدرساً فيها دون أن يكون معه شهادة رسمية.. ومثله في المدرسة فيما بعد الشيخ عبدالعزيز الخرجي رحمهم الله جميعاً. فعمل شيخنا في التدريس أكثر من أربعين سنة وكان منزله في حي (العذار) جنوب الدلم ويبعد عن مقر المدرسة أكثر من (كيلومترين) يقطعها مشياً ذهاباً وإياباً يومياً دون أن يركب دابة أو سيارة.
وكان من حسن حظي أن سعدت بتلقي العلم على يديه طالباً في تلك المدرسة العامرة فيما بين عامي 1389هـ - 1392هـ. وسمعت منه ورأيت ما يثلج الصدر من علم وتقوى وجد ومثابرة فكان نعم القدوة ونعم المعلم ونعم المربي بزهده وصبره وحلمه ولطفه. وكان معه عدد من الأساتذة الكبار الذين بقيت لهم في حياتنا بصمات عميقة راسخة بما آتاهم الله من علم وحلم وأخلاق كريمة منهم عبدالسلام بن ناصر اليمني وأخوه فهد بن ناصر اليمني وسليم بن عبدالعزيز بن شيحان ومحمد بن عبدالله المطيردي وعبدالله بن زيد آل زيد حفظهم الله وأعظم لهم الأجر والمثوبة.
هذه صورة من حياة شيخنا في المدرسة التي أنشأها الشيخ أحمد بن مسلم وسميت فيما بعد مدرسة ابن عباس في وسط الدلم وكان الشيخ عبدالعزيز بن حسين العسكر تاجاً على جبينها بما كان يحمله من علم وخلق وفقه وحسن قدوة.
ومن صفحاته المشرقة أنه كان كاتباً معتمداً يقوم بدور كبير في توثيق المبايعات بين الناس والكتابة لهم وعقود الصلح والاتفاق على المصالح العامة، فكان رحمه الله كاتب عدل محتسب قبل افتتاح كتابات العدل وكان القضاة يثقون فيه ويصدقون كتاباته ويستشهدون بها في معرفة الأملاك والحدود بينها والمواريث وغير ذلك.. ومن أسباب ذلك قلة من يجيدون الكتابة وقلة من يوثق بهم من الكتبة.
والوثائق التي كتبها رحمه الله كثيرة يحتفظ بها عدد من الأسر في أحياء وقرى الدلم وهي شواهد على ما كان يتمتع به شيخنا من شيم التعاون وحب الخير والنفع للناس والنصح لهم والفقه في الدين وبخاصة البيوع والمعاملات المادية والأوقاف وغيرها.
ومن أعماله الجليلة إمامة المسلمين للصلوات الخمس في الدلم والخطابة في جامع العذار بالدلم لعدة سنين وبقي في الخطابة حتى انتقاله للسكن في الرياض بعد تقاعده من التدريس، حيث خلفه في إمامة مسجد جامع العذار الشيخ فهد بن محمد الشدي.
ولما وصل للرياض اختير إماماً للمسجد المجاور لمسكنه في حي الشفا، فعرف بمواظبته على الإمامة وعدم الغياب والنصح للناس وحسن الصوت في القراءة حتى أحبه سكان الحي بعامة وبقي فيه حتى انتقاله لمسكن آخر وعجزه عن الإمامة لكبر سنه.
وكان شيخنا صبوراً قوي الإيمان بالله تعالى وتحمل الشدائد واحتساب الأجر فيها، فقد ابتلي بفقد ابنيه محمد وعبدالله حيث توفيا دون أن يرزقا بأولاد ثم توفيت ابنته وزوجته وشارك في دفنهم وبقي صابراً محتسباً شاكراً الله على قضائه وقدره.. وكان حينما نزوره متهلل الوجه دائم البشر يحتفي بالصغير والكبير ويسألنا عن أحوالنا ويجيب على أسئلتنا ويحترم أي رأي يسمعه وإن لم يعجبه، لا يحتقر أحداً ولا يسخر من شخص أو موقف أو رأي مهما كان شططه.. ولذلك سخّر الله له من يخدمه ويعتني بشؤونه من أحبته وأبناء ابنته وأبناء إخوانه وكانوا يعدّون ذلك شرفاً أكرمهم الله به وبراً يؤدونه لأبيهم وشيخهم وإكراماً له لما قدّم وبنى خلال سنوات عمره من بر وفضل وعمل نفع به الداني والقاصي.
ومما تميز به شيخنا حبه للمزاح والترويح عن النفس بما لا يخدش المروءة أو يؤذي الناس، فيسعد جليسه ويؤنسه ويكون في مزحه معلماً كما هو في منبره وكرسي التدريس، وكان في ذلك مقتدياً بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يمزح ولا يقول إلا حقاً ومن ذلك المعاريض بأن يقول كلمة أو عبارة لها معنيان يفهم الناس لها معنى والشيخ يقصد معنى آخر.. كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم (إن الجنة لا يدخلها عجائز) وكما قال للمرأة التي جاءت تشتكي زوجها (أهو الذي في عينه بياض..) وذلك النوع من المزاح هو خلق الأنبياء والصالحين والعلماء العاملين.. وحسن ذلك منهجاً وخلقاً وطبعا حسناً.
هذا هو الشيخ الزاهد الورع التقي الناصح المربي عبدالعزيز بن حسين بن أحمد العسكر بقية سلف وقدوة طالبي العلم ومثال التواضع ولين الجانب. من عرفه عن قرب أحبه ومن جالسه أنس بقربه ومن عامله سعد بتعامله معه ومن تتلمذ على يديه تلقى العلم والخلق والنبل ونبغ في دراسته حباً للعلم وقناعة بفوائده، فإن زينة العلم حاملوه وتاج الفقه سيرة رُوّاده ومعلموه.. ولم يكن حب الناس للصحابة والتابعين لذات العلم فقط، وإنما كان لأن الناس كانوا يرون الفقه والعقيدة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في سيرة وأخلاق وتعامل وحياة العلماء وأساتذة حلقاته في البيوت والمساجد، وأحسب أن شيخنا عبدالعزيز بن حسين يشبه التابعين في خلقه وحياته كلها رحمه الله تعالى.
وقد وجدت أن ما قاله الشيخ محمد تقي الدين الهلالي رحمه الله في شيخه والشيخ عبدالعزيز بن حسين والإمام عبدالعزيز بن باز يصدق تماماً في شيخنا الذي نتحدث عنه يقول الهلالي:
إمام الهدى عبدالعزيز الذي بدا
بعلم وأخلاق أمام الورى بدرا
تراه إذا ما جئته متهللاً
ينيلك ترحيباً ويمنحك البشرا
حليمك عن الجافي إذا فاء بالخنا
ولو شاء أرداه وجلّله خسرا
يقابل بالعفو المسيء تكرماً
ويبذل بالحسنى مساءته غفرا
وزهده في الدنيا لو أن ابن أدهم
رآه ارتأى فيه المشقة والعسار
وكم رامت الدنيا تحلّ فؤاده
فأبدلها نكراً وأوسعها هجرا
خطيب بليغ دون أي تلعثم
ومن دون لحن حين يكتب أو يقرا
بعصر يرى قراؤه اللحن واجباً
عليهم ومحتوماً ولو قرأوا سطرا
بتفسير قرآن وسنة أحمد
يُعَمِّر أوقاتاً وينشرها دُرَّا
وينصر مظلوماً ويسعف طالباً
بحاجاته ما إن يُخَيّب مضطرا
ويعرف معروفاً وينكر منكرا
دجى الجهل والإشراف يدحره دحرا
وأردد في رثاء شيخي ما قاله أخي الدكتور عبدالمحسن بن عبدالعزيز العسكر في رثاء الشيخ ابن باز، فإن سيرة التلميذ تشبه سيرة شيخه رحمهما الله جميعاً. يقول الدكتور عبدالمحسن:
فرشت دربك بالتقوى تزينه
أزهار حلم وعلم راسخ السبب
أمضيت عمرك في روض الهدى فنمت
ذرات جسمك في طهر وفي أدب
شتان ما بين من في الخير أنفقه
وبين من عاش للدنيا وللرّتب
أذكرتنا بعظيم العلم من سلفوا
من الأئمة كالثوري والذهبي
لا تعجبوا أن حب الناس طوقه
فحب أمثاله من أعظم القرب
شيخ له في سبيل الله مآثرةٌ
ما جاد عن نهجه السامي ولم يهب
يا أيها الوالد المفضال إنّ لكم
بكل قلب وداداً غير ذي كذب
يا أيها القرن فافخر بالإمام وقل
هذا البقيَّة من أسلافنا النّجب
رحم الله الشيخين وغفر لهما وجزاهما على أعمالهما الصالحة خير الجزاء ونفع الله بما نقول ونكتب، وألحقنا بهم في الصالحين وجعل الله من ذرياتهم من يحيى ذكرهم ويتبع نهجهم إنه جواد كريم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
فاصلة:
هذه شجون تلميذ تجاه أستاذه ومحب تجاه حبيبه وهي من إملاء الذهن وذكريات الأيام، وأنا أعرف أن لدى الأخوين الكريمين سعود بن عبدالعزيز بن عبدالله وعبدالله بن ناصر بن حسين معلومات ووثائق كثيرة من حياة الشيخ ومآثره بحكم قرابتهما به وقربهما منه وملازمة أولهما له سنوات كثيرة ونحن بأمس الحاجة لمعرفتها والاستفادة منها عسى أن ييسر نشرها ووصولها لمن يستفيد منها وفاء للراحل الكريم وتذكيراً للأبناء والأحفاد بمآثر أسلافهم وسيرتهم العطرة.
عبدالعزيز بن صالح العسكر
عضو الجمعية العلمية السعودية للغة العربية