آن الأوان لوقفة حاسمة مع شركات التأمين
لا مثالية في قطاع الأعمال، ومن يتوقع المثالية من مستثمر واهم من دون شك. لا نشكك في ذمم الناس بالطبع، لكن فقط نحتكم إلى اعتبارين أساسيين في علاقة أي مستثمر بالسوق التي يقدم فيها منتجاته، الاعتبار الأول اعتبار الربح، فلا أعرف مستثمراً دخل سوقاً إلا ليملأ محفظة شركته المالية من عوائدها، أما الاعتبار الثاني فهو اعتبار المتابعة والرقابة، فالحكم بيننا جميعاً رقابة الجهات المسؤولة على الجميع، من أجل ضمان تحقيق مصلحة الدولة ومصلحة المواطن، وأيضاً مصلحة المستثمر، فلسنا ضد أن يستفيد الجميع، لكن ليس على حساب وطننا أو على مواطنينا.
قبل أن يشهد قطاع التأمين طفرته الكبرى التي يشهدها اليوم، منذ نحو عشر سنوات، وقبل أن يتحول إلى قطاع عملاق يدر المليارات على المستثمرين، لم يكن في المملكة إلا شركة تأمين واحدة معتمدة هي الشركة الوطنية للتأمين، ثم بدأت الشركات تتقاطر إلى القطاع حتى تجاوزت ثماني وعشرين شركة. وقد كانت سعادتنا بالغة بهذا الإقبال من شركات التأمين حتى نضمن وجود منافسة على الجودة بين الشركات المرخص لها، وكان واضحاً لنا أن الشركات الحائزة على رخص تقديم خدمات التأمين الصحي ما تقدمت إلا بحثاً عن حصة لها في سوق بقوة السوق السعودية، ولا بأس في ذلك على الإطلاق، لكننا في المقابل أيضاً كنا ندرك أن إحكام الرقابة على ممارسات هذه الشركات هو الضمانة الوحيدة لحماية المنشآت الصحية والمواطنين من أي مخالفات، وبالفعل عثرنا على ممارسات غير نظيفة على شاكلة المماطلة، والتلاعب بالأسعار، فلم نتردد في اتخاذ إجراءاتنا بهذا الخصوص، فعاقبنا بعض الشركات، بل ألغينا تراخيص بعضها الآخر.
ومع تقديرنا للجهود المضنية التي يبذلها الزملاء في الضمان الصحي لإحكام الرقابة على الشركات العاملة في قطاع التأمين من أجل حماية المواطنين والمنشآت ما يصب في الأخير في تنمية القطاع الصحي ورفع مستوى الجودة فيه، إلا أن بعض شركات التأمين لا تعدم الحيلة، وتجد طريقها إلى الخداع والمراوغة، من أجل تحقيق مكاسب بطرق غير قانونية، ومن أمثلة ذلكم ما ذكره لي بعض أصحاب المنشآت الصحية الخاصة عن الممارسات الملتوية لبعض شركات التأمين. فنحن نعلم جيدًا أن وزارة الصحة قد حددت أسعار الخدمات الصحية في القطاع الخاص، وهي أسعار معتمدة، والشركات تعلم ذلك جيدًا، لكنها تحتال على القوانين عندما يهم صاحب المنشأة بمطالبة شركات التأمين بمستحقاته لديهم، فتبدأ المساومات من قبل شركة التأمين على الأسعار، بممارسة الضغوط على أصحاب المنشآت لتخفيض السعر أو أي التنازل عن جزء من المستحقات حتى تسددها شركة التأمين، ويحددون نسبة التخفيض التي يضطر صاحب المنشأه للقبول بها؛ تحت وطأة حاجته للسيولة للوفاء بالتزاماته، وهذا مخالف للنظام، ومن أمثلة أساليب التحايل والتلاعب كما وردني من أصحاب المنشآت، تخفيض عدد المرضى للمراكز الطبية، التي ترفض الرضوخ لمساومة شركات التأمين، برفع الفئة المتاحة للمنشأة؛ ما يجبر المنشأة الطبية على إعطاء الخصومات لشركة التأمين، وهذا يتكرر سنوياً مع طلب خصومات إضافية من المنشآت. من أساليب المساومة والابتزاز أيضاً مبالغة شركات التأمين في المرفوضات، وعند مراجعتها لا يكون هناك سبب أو مبرر للرفض، وعند رفض المراكز الموافقة على نسبة المرفوضات التي تقررها شركة التأمين فإنها تلجأ الى عدم صرف المستحقات للمراكز، وتعطيلها مدة تصل إلى سبعة أشهر أو أكثر؛ حتى ترضخ المراكز لإجبارها على الموافقة على نسبة المرفوضات التي تقررها شركات التأمين.
وفيما يخص مقدار تحمل المراكز لقيمة الأدوية، توجد أدوية كثيرة نسبة الخصم المقررة من شركة الأدوية لها 9 %، فعلى سبيل المثال علاج gelinia، المستخدم في علاج تصلب الأعصاب، يصل سعر العلبة الواحدة منه إلى عشرة آلاف ريال، يتحمل المركز/ المنشأة 28 % منها، بعد خصم نسبة 9 % من شركة الأدوية، فتكون النسبة كالآتي: نسبة خصم التأمين 10 %، نسبة المرفوضات 20 %، نسبة الدفع المستعجل 7 %، وفي المحصلة فإن المركز يخسر 2700 ريال، من جراء تلاعب شركات التأمين ومساوماتها.
لكن وراء الأكمة ما وراءها، فهناك ما هو أخطر وأسوأ في المشهد، فهؤلاء المندوبون جميعاً غير سعوديين، وهذه مصيبة أخرى، فلا يعني هؤلاء أن تبقى المنشآت الصحية أو تغلق تحت وطأة تراجع إيراداتها في مقابل جشع بعض شركات التأمين، فقط كل ما يعني هؤلاء تعظيم نسب الأرباح التي يحققونها من جراء الضغط على المنشآت لصالح شركات التأمين، في وقت يحرم فيه أبناؤنا من عوائد هذه الأرباح، وفي الوقت نفسه تحرم بلادنا من خدماتهم.
نحن إذن أمام متلازمة تلاعب بالغة الضرر بالقطاع الأهم على الإطلاق فيما يتعلق بسلامة المواطن، تلاعب بقطاع الصحة في ظل الإضرار الواسع بالمنشآت الصحية المهددة بالتخلي عن خيار الجودة للوفاء بالتزاماتها في ظل ابتزازها من قبل شركات التأمين، أو بالتخلي عن نشاطها في ظل الخسائر الفادحة التي تتكبدها، والممارسات الفاسدة المرهقة، وهي مخالفات مرتبطة عضوياً بالوجود الأجنبي في بلادنا، فما من شك أن سعودة هذا القطاع من شأنها تحجيم هذه الأزمة لأنها في جزء كبير منها أزمة انتماء، فحين يعلو صوت المنفعة على صوت الضمائر في قطاع شديد المساس بصحة المواطن فنحن أمام كارثة محتملة، وما من شك في أن حس المواطنة سيكون عظيم الأثر في هذا القطاع، وأيضاً أمام سؤال يطرح نفسه: لماذا يقتصر العمل في هذا القطاع على غير السعوديين؟ في وقت أثبت فيه أبناؤنا كفاءتهم في مجالات مشابهة، وأثبتوا أمانتهم وولاءهم وانتماءهم أيضاً لصالح بلادهم. إنني أطالب في هذا المقام بسعودة وظائف مندوبي شركات التأمين، وإحكام الرقابة على هذا القطاع حتى لا يتسبب في الإضرار بجودة الخدمات الطبية في ظل الضغوط التي تشهدها المنشآت الطبية في مواجهة جشع شركات التأمين.