متعة التقاعد
يرى البعض أن التقاعد من أقسى الأحداث التي يتعرض لها الإنسان، والتي قد تساهم في إصابته بالمرض النفسي لما يمثله التقاعد من فقدان كثير من القيمة الاجتماعية والعديد من المزايا التي كان يحصل عليها قبل التقاعد، وليس هذا فحسب، بل قد يتعرض المتقاعد نتيجة لأزمة التقاعد المفاجئة لاضطرابات عقلية قد تؤثر في صحته.وخاصة اذا كان من ذوي الدخل المتدني.
حقيقة لا نعلم عن صحة ما يقال عن التقاعد من مخاوف وسلبيات لأنه يختلف حسب الأشخاص والأماكن والأزمنة، ولكن بالتجربة عرفت شخصيا أن التقاعد نعمة وراحة وانعتاق من كثير من الأمور التي تعود على الإنسان بالتعب والمرض والعجز الذهني والبدني؛ فقد كنت قبل التقاعد أعاني كثيرا من مرض السكر والضغط والعيون والظهر والرقبة والمفاصل ومن الارتباط اليومي والروتين والملل والطفش والضغوط والحرمان من متعة الراحة والحرية والسفر وممارسة هواياتي المحببة الى نفسي، وحرمت من كثير من فرص ومناسبات التواصل الاجتماعي في محيط الأسرة والمجتمع ، هذا علاوة على محدودية دخلي الشهرى وعدم قدرتي على تنويع مصادره، حيث تغيرت حياتي (بعد التقاعد) للأفضل بشكل محسوس وملموس؛ صحيا ونفسيا واجتماعيا وعلميا وعمليا وماديا، وتمكنت بفضل الله ثم بفضل التقاعد من العودة لذاتي واكتشاف الفرص التي فاتتني واستطعت في فترة وجيزة من اعادة بناء وترميم ما أفسدته تلك السنون خلال فترة حياتي الوظيفية الرسمية واصبحت أنا بالفعل "أنا" ، وهذه نعمة كبيرة يحسد عليها المتقاعد.
لقد تغيرت اليوم تلك الظروف التي جعلت من الوظيفة الرسمية مصدر الرزق الوحيد، حيث توفرت اليوم ولله الحمد الفرص التي يمكن أن تغني عن الوظيفة الرسمية ، وتبعد رهبة الخوف من التقاعد حتى بالنسبة لمن دخلهم التقاعدي قليل ولا يفي باحتياجاتهم الحياتية، اضافة الى أن فرص التعليم والتعلم والتدريب والتدرب تضاعفت وساعدت كثيرا على أن يثق المرء في نفسه وفي قدراته، اضافة الى أن دائرة الحياة اتسعت لتشمل العديد من الفرص، ولم تعد محصورة في مصدر رزق واحد
إن المتأمل في حياة غالبية المتقاعدين، يجدهم سعداء ومشغولون بما يحبون من غير اكراه، وأن أعمالهم تميزت وانتاجيتهم تضاعفت وازداوا نشاطا وحيوية، وصاروا أحسن حالا من السابق وأفضل من كثير ممن لا يزال على رأس العمل .
المشكلة التي يمكن أن يمثلها التقاعد، عدم التخطيط والاستعداد له من أول يوم في الوظيفة، وعدم التفكير في البدائل التي يمكن ممارستها بعد التقاعد، حتى لا يفاجأ المرء باليوم الذي يرغم فيه على التقاعد، فالذين يصابون بصدمة التقاعد، هم اولائك الذين لم يخططوا له!
خلاصة القول: التقاعد راحة وصحة ومتعة ونعمة، لو جربها المرء لقاتل من أجلها، ومن تتاح له الفرصة ولا يستفيد منها سيندم لاحقا، حينما يجد نفسه عاجزا عن القيام بما يمكن القيام به اليوم، فالوقت يمضي بسرعة ومن ذهب لا من خشب، وان فات الفوت ما ينفع الصوت، كما يقول المثل الشعبي.
د. هلال محمد العسكر