هل نحن كذلك حقاً
تركي العسيري
من عاداتي القديمة التي لم أستطع الفكاك منها مع الزمن، وعند زيارتي لقاهرة المعز، الجلوس في المقاهي العتيقة، في حي «السيدة» والحسين. فالمقهى الذي عشقناه من خلال قراءتنا لروايات الأديب النوبلي (نجيب محفوظ) -غفر الله له- والذي تمحورت قصصه وروياته حول المقهى والأحياء القديمة، والناس البسطاء. ولعل الصدفة وحدها قد جمعتني في إحدى تلك المقاهي مع مثقف مصري، وأستاذ جامعي محب لبلادنا وأهلها, ومتابع لما تكتبه مطبوعاتنا، وأسعدني إشادته بهامش الحرية التي يتمتع بها الكاتب السعودي في الآونة الأخيرة، ويرى في ذلك دليلاً لعهد جديد من الإصلاح والتحديث في بلادنا. غير أن مأخذه الوحيد يكمن في موضوعات مدح المسؤولين، والتي يرى أن التملق والمديح يقلل من قيمة الكاتب ومصداقيته حتى عند الممدوح نفسه. قلت له ممازحاً: لقد تعلمنا ذلك منكم يا سيدي! قال: كيف؟ قلت: أليس شاعركم هو القائل للوالي حين حلّ الزلزال المروع بقاهرة المعز: (ما زلزلت مصر من شر أريد بها لكنها ضحكت من عدله طربا)! هل بعد هذا من تملق؟ وضحك الرجل طويلاً، وقال بظرف: لقد تبنا.. والتائب عن الذنب كمن لا ذنب له! وابتعدنا عن محور الحديث، ثم افترقنا، غير أنني رحت أفكر فيما قاله صديقي العروبي المحب لبلادنا وشعبها، ووجدت فيه من الصدق ما جعلني أسترجع من الذاكرة أسماء لكتبة لا أكاد اقرأ لهم شيئاً غير المديح المفرط بمناسبة وبغير مناسبة. والحق أن موضوعات المدح والتملق من الموضوعات التي يخجل المرء السوي من طرحها والتطرق إليها. ولابد لي بهذه المناسبة أن أشيد بكتاب كبار نعرفهم لم يدنسوا كتاباتهم بهذا التملق المشين، ولم يرتهنوا للضعف الإنساني رغم أن بعضهم يعيش على الكفاف. إنني أعتقد أن أصدق المديح -إذا كان لابد منه - ما كان صادراً عن قلم لا يرتجي فيما يكتب غير مرضاة الله، وقول الحق، وتشجيع المحسن والإشادة بجهده وعمله. والملفت أن شعوباً كثيرة تحتقر التملق، حتى أن شاعر إيطاليا الضخم (دانتي) يرى: «أن المتملقين مكانهم الحلقة الثامنة في جهنم مع الطغاة والقتلة»، بينما يرى الشاعر البريطاني (جون ميلتون): «أن التملق صفة تخص الشيطان». أعرف أن لنا نحن العرب مخزوناً غير هين في التملق وتدبيج المدائح التي لا تصدق، ألم يقل الشاعر لممدوحه: «وأخفت أهل الشرك حتى أنه لتخافك النطف التي لم تخلق»!! ولست أدري ما الله قاض به حين يلقاه عرياناً إلا من ذنوبه؟!