الإدارة الحنونة
د صالح الرشيد
تختلف طباع البشر, وباختلاف طبائعهم يختلف أسلوب تعاملهم مع الأشخاص والأحداث، وطباع المدير والإدارة تتغلب في كثير من الأحيان على قواعد المهنية في العمل، فمن السهل أن تغير الإدارة مهاراتها في العمل, لكن من الصعب أن تغير طباعها وأخلاقياتها ونمط تعاملها الإنساني مع مرؤوسيها. تأكدت لي هذه الرؤية في تواصلي مع إدارة إحدى المؤسسات، عندما دخلت المؤسسة لأول مرة استشعرت بأن هناك هدوءاً وسكينة في المكان لا تتناسب وطبيعة النشاط التجاري الذي تمارسه المؤسسة, وبدا لي أنني أمام تجربة إدارية مختلفة، وبالفعل في المقابلة الأولى مع إدارة المؤسسة وضح أننا بصدد إدارة تتسم بالنواحي الإنسانية إلى حد كبير، وتأكد لي هذا الشعور بالحديث عن سياسات واتجاهات الإدارة نحو منسوبي المؤسسة الذين يعملون فيها منذ سنوات طويلة ونشأت بينهم وبين إدارة المؤسسة علاقة إنسانية تفتقد المعايير الموضوعية، فمرتبات الموظفين وحوافزهم لا تخضع لنظام واضح ومحدد بقدر ما تخضع للتفاوض والتأثير الشخصي في قناعات إدارة المؤسسة، الجزاءات ليس لها وجود ملحوظ في المكان، والترقيات متاحة للجميع حسب الطلب، والاستغناء عن موظف غير وارد، وإبعاد مدير قد يكون قرارا تاريخيا يصعب نسيانه، وتعيين موظف في المؤسسة مراعاة لظروفه الإنسانية دون اعتبار لمهاراته أو حاجة العمل إليه أمر وارد دائماً في تلك المؤسسة. نحن أمام \"\"إدارة حنونة\"\" تعمل بمبدأ \"\"كلهم أولادي\"\"، وأمام مدير رقيق يستخدم الطيبة الزائدة في إدارة الأفراد. ربما تظن عزيزي القارئ أننا بصدد مؤسسة فاشلة، عفواً هذا غير صحيح فهي مؤسسة ناجحة في مجال عملها تتعامل مع شركات عالمية وتحقق مبيعات سنوية جيدة، أوضاع الشركة الجيدة ترتبط بالصناعة التي تعمل فيها والحاجة المتزايدة إلى المنتجات التي تقدمها المؤسسة وانخفاض حدة المنافسة مقارنة بالمنافسة المحتدمة في صناعات أخرى. وترتبط أيضاً باستقرار العمل في المؤسسة ووجود موظفين لديهم ولاء للمؤسسة وإداراتها, ولديهم خبرات عمل طويلة أسهمت في بناء علاقة جيدة مع أطراف متعددة داخلياً وخارجياً. إذن أين المشكلة؟ المشكلة أننا بصدد مؤسسة تظل مكانها بلا حراك، وموظفين لديهم خبرات بلا مهارات، وفرص مفقودة للتطوير والتحسينات، واستغلال طباع الإدارة وأخلاقياتها في تحقيق مكاسب شخصية على حساب مصالح المؤسسة في كثير من الأحيان، وعمل مؤسسي بلا معايير أو محددات سوى العلاقة الشخصية والإنسانية التي تربط الإدارة بموظفي المؤسسة، وموظفين يحصلون على أكثر مما يستحقون. المشكلة أننا بصدد مؤسسة تقدم الحد الأدنى من الأداء والإنجازات. إذا كانت الإدارة الحنونة تخلق حالة من الحب المتبادل بينها وبين مرؤوسيها فعلى الإدارة أن تكون على استعداد دائماً لتقديم تنازلات, وأن تتقبل قصور وتجاوزات مرؤوسيها وأن تتحمل مسؤولية عدم الجرأة في اتخاذ قرارات استراتيجية ربما تصنع تاريخاً للمؤسسة، فالحزم يظل مطلوباً وله ضرورته في كثير من المواقف, خاصة في إدارة البشر وتغييرهم، وافتقاد الحزم يضر الموظف مثلما يضر المؤسسة تماماً, حيث يفقد الموظف الدافع إلى التغيير ويجعله غير قادر على التخلص من سلوكيات عمل غير مرغوبة، ويشجعه على طلب مزيد دون وجه حق. في عالم الأعمال الرقة وحدها تصنع مؤسسة خيرية، والحزم بمفرده يصنع ثكنة عسكرية، الرقة والحزم معا يصنعان مؤسسة مستقرة متطورة .. وتظل دائماً هناك مشكلة .. إن الطباع يصعب تغييرها.